(51) قد يفهم من السياق أنه وضع كفيه على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم . وقد أورد الحافظ في الفتح من حديث ابن عباس ، وحديث أبي عامر الأشعري رواية مصرحة بذلك . قلت : وفي هذا من الفوائد : أن على طالب العلم أن يبالغ في الإصغاء إلى معلمه ، ولا ينصرف عنه بالشواغل ؛ فإن وضع السائل ـ وهو جبريل عليه السلام ـ يديه على فخذ النبي صلى الله عليه وسلم صنيع منبه للإصغاء إليه .
(52) إن للدين ظاهر وباطن ؛ فظاهره الإسلام ، وهو الخضوع والانقياد وامتثال أوامر الله قولا وعملا ، وباطنه الإيمان ، وهو التصديق الجازم بالله وملائكته ورسله وسائر الأركان وأمور الإيمان ، والإحسان هو ثمرة التحقق بهما معا ، وهو حضور القلب في حضرة القرب ، وهو الهداية إلى الصراط المستقيم التي تورثها منازل { إياك نعبد وإياك نستعين }.
(53) وفيه : أن الذي يعلم من الخبر بداهة ـ أو يدل عليه سياق الكلام ـ لا إلزام في ذكره ويجوز حذفه للاختصار ، فبعض الرواة ذكر أنه سلم لما دخل ، وبعضهم لم يذكر السلام في روايته .
(54) كلام العاقل يحمل على الحقيقة ، لذا وقع الاستغراب من الصحابة من قول السائل " صدقت " وهو جواب العارف ، ولم يعتبروه لغوا مع كونه ـ في الظاهر ـ يسأل ليعرف .
(55) وقع في رواية سليمان التيمي عند ابن حبان " وأن تعتمر وتغتسل من الجنابة " وفيه مستمسك لمن قال بوجوب العمرة مع الحج ، قاله الحافظ ابن حجر .
قال أبو حاتم ابن حبان (62): تفرد سليمان التيمي بقوله خذوا عنه وبقوله تعتمر وتغتسل وتتم الوضوء .
قلت: تابعه الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري عن يحيى بن يعمر ـ عند المروزي في تعظيم قدر الصلاة (63) ـ في بعضها ، وهي قوله " وتغتسل من الجنابة ".
(56) قد يقع الجواب مجملا ويكون كافيا في البيان لمن سبق لهم معرفة التفصيل ، وقد أجاب نبينا صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ؟ فقال :" الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ، وقال عن الإيمان : أن تؤمن بالله ، وملائكته وكتبه ورسله ... " وهذا وقع منه مجملا ، وقد سماه ( تعليما ) في آخر الحديث .
(57) في قول السائل " أخبرني عن الإسلام ، وقوله " أخبرني عن الإيمان " ... دليل على أن للسائل أن يزيد على سؤال واحد حتى يتحصل له الفهم ، أو يستزيد من العلم .
(58) وفيه أن للسائل أن يأتي بأسئلته مجتمعة ، ثمَّ بعد تمام الخطاب يستمع إلى الجواب ، وله أن يفرق سؤالاته واستفهاماته حسب ما تقتضيه الحال ، أو وفق ما تمليه المناسبة .
(59) في قوله " فإنه جبريل أتاكم " فإن مجيء جبريل عليه السلام ـ على هيئة رجل ـ سائلا ، دليل على أهمية هذه الأمور ـ المسئول عنها ـ وعظيم خطرها ، ووصفه صلى الله عليه وسلم لها بأنها دين في قوله " يعلمكم دينكم " يؤكد ذلك .
(60) وفي قوله " فإنه جبريل " بيان لجواز كشف بعض الحقائق إذا كان يترتب على كشفها مصلحة مشروعة ، ولعل من المصلحة هنا : بيان الأهمية .
(61) جواز رواية الحديث بالمعنى ، ففي بعض الروايات " يا محمد ، وفي غيرها " يا رسول الله " وفي أخرى " يا نبي الله ".
وقوله "وسأخبرك عن أشراطها" جاء بلفظ :" ولكن سأحدثك " وفي رواية " ولكن لها علامات تعرف بها "، وفي رواية :" قال فأخبرني عن إمارتها فأخبره ".
(62) وفيه جواز الاقتصار على بعض الحديث , وجواز الإتيان به تارة مطولا وتارة ملخصا . فمن الرواة من رواه بطوله ، ومنهم من اقتصر على بعضه ، ومنهم من زاد فيه ونقص .
(63) في قوله " وأن تغتسل من الجنابة وتتم الوضوء " دليل على فرضية الطهارة .
(64) قول أبي عبد الله البخاري " جعل ذلك كله من الإيمان " يُشعر بأن هذا الحديث جاء بيانا لقوله تعالى {ورضيت لكم الإسلام دينا} وفي سياق الحديث ما يشهد لهذا ففي أوله السؤال عن الإسلام ، وفي ختامه " أتاكم يعلمكم دينكم ".
والمعنى : أن الإسلام الذي يرضاه الله تعالى ؛ هو الإسلام الكامل الذي يشمل الأمور المذكورة في هذا الحديث .
(65) قوله " إذ لم تسألوا " يُشعر بأن هذه القصة ، والسؤال عن هذه الأمور وقع متأخرا ؛ إذ لو كان في أول العهد لما احتاج إلى استدراك جبريل عليه السلام ؛ فإن الباب ـ وقتئذٍ ـ لا زال مفتوحا ، ولما كان هناك فائدة في قوله " إذ لم تسألوا " وهذا ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم ؛ فدل على وقوعه في آخر الأمر . قال توفيق : قلت هذا استخلاصا من الحديث ، ولقد وقفت بعد ذلك على كلام للحافظ ابن حجر في الفتح ملأ نفسي حبورا وسرورا ، وإليك عبارته :
قال الحافظ :" ... روى ابن مندة في كتاب الإيمان (64) بإسناده الذي على شرط مسلم من طريق سليمان التيمي في حديث عمر أوله " أن رجلا في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذكر الحديث بطوله , وآخر عمره يحتمل أن يكون بعد حجة الوداع فإنها آخر سفراته , ثم بعد قدومه بقليل دون ثلاثة أشهر مات , وكأنه إنما جاء بعد إنزال جميع الأحكام لتقرير أمور الدين - التي بلغها متفرقة - في مجلس واحد , لتنضبط ". فلله الحمد على ما ألهم وعلم وتلطف وتمنن .
(66) " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل " إشارة منه صلى الله عليه وسلم أنه عرف حقيقة السائل ؛ فذكّره بما جرى بينه وبين عيسى بن مريم عليه السلام ، فقد روى ابن المبارك في الزهد (65) قال : أخبرنامالكبنمغول ، قال :سمعتإسماعيلبنرجاءيحدثعنالشعبيقال :لقيجبرائيلعيسىبنمريمفقالالسلامعليكياروحاللهقالوعل يكالسلامياروحالله، قال: ياجبرائيلمتىالساعة؟ قال: فانتفضجبرائيلفيأجنحتهثمقال : ماالمسئولعنها بأعلم من السائل ، ثقلتفيالسماواتوالأرض ،لاتأتيكمإلابغتة ، أوقال : لايجليهالوقتهاإلاهو .
وقوله في بعض الروايات " ما جاءني في صورة قط إلا عرفته إلا في هذه الصورة فمحمول على أول الأمر ، حين دخل ، وحين باشر السؤال ، ومن ثم عرفه بفراسة النبوة الثاقبة .
(67) فيه دليل على أن سؤال القادم ، أو السائل عن اسمه ليس على سبيل الوجوب ، ففي حديث ابن عباس في خبر وفد عبد القيس (66)، قال:" من القوم ؟ أو من الوفد ؟ " الشك من الراوي ، وفي هذا الحديث لم يسأل السائل عن اسمه أو ما يعرف به ؛ فيحمل الفعل على الاستحباب .
(68) قوله " يا رسول الله " فهم الصحابة منه كونه مؤمنا ، فلم يخشوا منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(69) وفيه أيضا ـ في قوله " يا رسول الله " ـ الدليل على لزوم التأدب والاحترام مع اهل العلم والفضل والصلاح والخير ، وأن ينادوا بأحبِّ أسمائهم إليهم ؛ لأن السائل ـ وهو جبريل عليه السلام ـ نادى النبي صلى الله عليه وسلّم بأحبِّ أسمائه إليه وأعلاها ، وذلك من التأدب منه معه واحترامه له .
(70) قوله " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله " وقوله " الإيمان أن تؤمن بالله ..." فيه دليل على أن العالم إذا سئل بدأ من الجواب بما هو الأهم والآكد ، وتقديم الملائكة على النبيين بالذكر ليس تقديم فضل ، وإنما لأن الإيمان بالملائكة طريق إلى الإيمان بالرسل عليهم السلام ؛ إذ هم سفراء الله إلى أصفيائه من خلقه .
(71) وقع في رواية النسائي والبيهقي " حتى سلّم في طرف البساط ، فقال : السلام عليك يا محمد " فيه دليل على جواز مناداة المفضول للفاضل لحاجته أو في أمر أشكل عليه ، مع لزوم الأدب ومراعاة الحُرْمة ؛ لأن السائل نادى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه متظافرون ، وهم رضي الله عنهم أفضل الناس بعد النبيين عليهم السلام ، فلم ينكر عليه واحد منهم رفع صوته .
وأشار إلى هذا المعنى الحافظ الجِهبِذ عبدالله بن أبي جمرة عند كلامه على حديث ابن عباس في ذكر وفد عبدالقيس وسؤالهم النبي صلّى الله عليه وسلم عن أمور الإيمان (67).
(72) ينبغي للسائل أو المستمع حين استماعه لجواب أو حديث ، أن ينطقَ بما يُشعِر ـ من يحدثه ـ انتباهه وحضور قلبه ، وهذا يظهر في قول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم " صدقت " أكثر من مرّة .
(73) وفي مبالغة جبريل عليه السلام في تعمية أمره ، حيث ظهر بمظهر الأعراب الجفاة ، ونادى النبي صلى الله عليه وسلم باسمه من طرف البساط ، وتخطى الرقاب حتى جلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ؛ دليل على لزوم الأخذ بالوسائل من أجل تحقيق المقاصد ؛ إذ لو عَلِمَ الصحابة حقيقته ، لربما انشغلوا به عن الفائدة التي جاء من أجلها .
(74) وفيه احتجاج الصحابة بالسنة الصحيحة في بيان العقائد ، حيث استدل عبدالله بن عمر رضي الله عنهما ـ وهو من علماء الصحابة وفقهائهم ـ بالسنة في الرد على زعم القَدَرية .
(75) وفيه قبول خبر الواحد لأن الذي أجاب يحيى بن يعمر وصاحبه واحد وهو ابن عمر رضي الله عنهما .
(76) تظهر فيه فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم وبلاغته ، حيث أجاب السائل بكلمات يسيرة ، ولكنها تحمل في طياتها المعاني الغزيرة .
(77) دليل صدق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " أوتيت جوامع الكلم " فإن هذا الحديث على وجازته اشتمل على فوائد كثيرة ، وعوائد وفيرة ، حتى اعتبر أصلا لعلوم الشريعة .
قال القرطبي : هذا الحديث يصلح أن يقال له أم السنة , لما تضمنه من جمل علم السنة .
وقال الطيبي : لهذه النكتة استفتح به البغوي كتابيه " المصابيح " و " شرح السنة " اقتداء بالقرآن في افتتاحه بالفاتحة , لأنها تضمنت علوم القرآن إجمالا .
وقال القاضي عياض : اشتمل هذا الحديث على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان ابتداء وحالا ومآلا ومن أعمال الجوارح , ومن إخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال , حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه (68).
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (69): ولهذا أشبعت القول في الكلام عليه , مع أن الذي ذكرته وإن كان كثيرا لكنه بالنسبة لما يتضمنه قليل , فلم أخالف طريق الاختصار .
قلت : وأرى في ختام هذه المقالة أن أفصح عن خاطر يساور نفسي ، وهو أن أفرد لهذا الحديث مؤَلَفا يكون ـ بعون الله تعالى ـ حافلا بطرقه وأسانيده وفوائد أخرى حديثية بالإضافة إلى ما ذكر هنا ـ وقد رسمت شجرة لأسانيده بعد أن وقفت على كثير من طرقه ؛ فجاءت بحمد الله تعالى كثيرة الأغصان وارفة الظلال ـ ليكون ـ هذا الحديث ـ مثالا على مدى اهتمام حفاظ الحديث ونقاده وجهابذة علماء هذه الأمة بالسنة حفظا وتدوينا ورواية وتصفية مما قد يعلق بها من شوائب ، ودفعا لما يثور حولها من شبهات وأباطيل .
وصدق رسولنا الكريم إذ يقول :" يحمل هذا العلم من كل خَلَف عدولُه ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين "(70).
ولا يفوتني أن أشكر أستاذنا د. خالد المحمود عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية ، باقة ـ على تفضله بمراجعة هذا المبحث ، فجزاه الله عني خير الجزاء .
وصلّى الله على سيّدنا ومولانا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا