(35) فيه دلالة على فساد الزمن بين يدي الساعة ، حيث تضعف الأخلاق، ويكثر عقوق الأولاد ومخالفتهم لآبائهم فيعاملونهم معاملة السيد لعبيده.
وتنعكس الأمور وتختلط ، حتى يصبح أسافل الناس ملوك الأمة ورؤساءها، وتسند الأمور لغير أهلها، ويكثر المال في أيدي الناس، ويكثر البذخ والسَّرف، ويتباهى الناس بعلو البنيان، وكثرة المتاع والأثاث، ويُتعالى على الخلق ويملك أمرهم من كانوا في فقر وبؤس، يعيشون على إحسان الغير من البدو والرعاة وأشباههم.
وفي معنى قوله : ( إذا ولدت الأمة ربها ) أقوال ، منها :
ما قاله الإمام الخطابي : معناه اتساع الإسلام واستيلاء أهله على بلاد الشرك وسبي ذراريهم , فإذا ملك الرجل الجارية واستولدها كان الولد منها بمنزلة ربها لأنه ولد سيدها .
قال النووي وغيره : إنه قول الأكثرين .
قال الحافظ في الفتح (31): لكن في كونه المراد نظر ؛ لأن استيلاد الإماء كان موجودا حين المقالة , والاستيلاء على بلاد الشرك وسبي ذراريهم واتخاذهم سراري وقع أكثره في صدر الإسلام , وسياق الكلام يقتضي الإشارة إلى وقوع ما لم يقع مما سيقع قرب قيام الساعة .
ومنها : أن يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة بالسب والضرب والاستخدام . فأطلق عليه ربها مجازا لذلك . أو المراد بالرب المربي فيكون حقيقة .
قال الحافظ ابن حجر : وهذا أوجه الأوجه عندي لعمومه , ولأن المقام يدل على أن المراد حالة تكون مع كونها تدل على فساد الأحوال مستغربة . ومحصله الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث يصير المربي مربيا والسافل عاليا , وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى أن تصير الحفاة ملوك الأرض ، وفي رواية " رؤوس الناس ".
قال : ووصف الرعاة بالبهم لأنهم مجهولو الأنساب , ومنه أبهم الأمر فهو مبهم إذا لم تعرف حقيقته .
قلت : وهذا ملاحظ في ولاة أمور الأمّة ورعاتها ، ومن يسوس أمرها ؛ فإن فيهم من هو مجهول النسب ، أو من يزعم الشرافة فيه . ويؤيد ذلك قوله في رواية الإمام أحمد في المسند (40)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (41) " قال : يا رسول الله ومن أصحاب الشاء والحفاة الجياع العالة ؟ قال : "العرب".
وفي حديث [ أبي مالك ، أو أبي عامر ] قال : ومن أولئك يا رسول الله ؟ قال :" العَريبُ ".
(36) في قوله " أن تلد الأمة ربتها " وفي لفظ " ربّها " جواز إطلاق الرب على السيد المالك ، أو المربي (31).
(37-38) وفيه بيان قدرة الملك على التمثل بالصورة البشرية ، وفيه أيضا جواز رؤية الملك أو سماع كلامه . قال الحافظ ابن حجر :" وفيه أن الملك يجوز أن يتمثل لغير النبي صلى الله عليه وسلم فيراه ويتكلم بحضرته وهو يسمع , وقد ثبت عن عمران بن حصين أنه كان يسمع كلام الملائكة ". قال البيهقي : وروينا عن جماعة من الصحابة أن كل واحد رأى جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي (42).
وأخرج أحمد ، والبخاري تعليقا ، ومسلم ، والنسائي ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن أسيد بن حضير أنه رأى شيئا كهيئة الظلة فيه مثل المصابيح مقبل من السماء . قال له النبي صلى الله عليه وسلم :" تلك الملائكة دنت لصوتك " .
وأخرج الحاكم مثله (43) وزاد :" إنك لو مضيت لرأيت العجائب ".
وأخرج البخاري في الصحيح (44) حديث بناء البيت الحرام ... وفيه فلمّا أشرفت ـ هاجر ـ على المروة ، سمعت صوتا ، فقالت : صه ، تريد نفسها . ثم تسمعت ، فسمعت أيضا ، فقالت : قد أسمعت ، إن كان عندك غواث فأغث . فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه ، أو قال .. بجناحيه ، حتى ظهر الماء ... وفيه قال لها الملك : لا تخافوا الضيعة ، فإن ههنا بيتا لله ، يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإنّ الله لا يضيع أهله .
قال الشيخ عبد الله صديق الغماري الحسني : وممّا يؤخذ من القصة أنّ الملك قد يظهر للشخص الصالح ويكلمه ، فقد ظهر جبريل عليه السلام لهاجر ، وكلّمها مبشرا لها بأنّ ابنها سيبني البيت مع أبيه وتلك كرامة أكرمها الله بها ، ولم يصب من قال : أنها كانت نبية (45) .
وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده (46) . وابن جرير في تفسيره ، وأبو نعيم والبيهقي ، كلاهما في دلائل النبوة ، والطبراني (47) عن أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه أنه قال بعدما عمي : لو كنت معكم ببدر الآن ومعي بصري لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت علينا منه الملائكة عيانا لا أشك ولا أتمارى .
قال ابن القيم : رؤية الملائكة والجن ، تقع أحيانا لمن شاء الله أن يريه ذلك (48) .
(39) ردّ العلم إلى الله تعالى . وقد كان الصحابة الكرام إذا سُئلوا عن شيء لا يعلمونه ، قالوا : الله ورسوله أعلم . وهذا أدب مع الله تعالى إذ يردون العلم إليه ، وأدب مع رسوله صلى الله عليه وسلم إذ هو مصدر التلقي والمبلغ عن ربه عزَّ وجل .
ويظهر هذا في قول عمر عندما سأله النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ ؟ قال : قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
وفي حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو حينَ سأل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَدْرُونَ مَنِ الْمُسْلِمُ ؟ ... تَدْرُونَ مَنِ الْمُؤْمِنُ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
وجاء في حديث اجتماع موسى بالخضر عليهما السلام : أن موسى عليه السلام قام خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَسُئِلَ : أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ ؟ فَقَالَ : أَنَا أَعْلَمُ ، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بمجْمع الْبَحْرَيْنِ ، هُوَ أَعلَمُ منك ، قَالَ : يَا رَبِّ وَكَيْفَ بِهِ ، فَقِيلَ لَهُ : احْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَهُوَ ثَمَّ ، فَانْطَلَقَ ، وانطلق بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ ، وَحَمَلا حُوتًا فِي مِكْتَلٍ حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ .... الحديث (49).
(40) وينبغي لمن سئل عن شيء لا يعلمه ، أن يقول: لا أعلم، أو : لا أدري ، ولا يكون في ذلك نقص من مرتبته , بل يكون ذلك دليلا على مزيد ورعه وتقواه .
وقد كان علماء السلف يرون أن " لا أدري " نصف العلم .
(41) وينبغي لمن أراد أن يستفهم عن أمور تنفعه أن يحسن اختيار السؤال .
(42) قال ابن المنير : في قوله " يعلمكم دينكم " دلالة على أن السؤال الحسن يسمى علما وتعليما , لأن جبريل لم يصدر منه سوى السؤال , ومع ذلك فقد سماه معلما , وقد اشتهر قولهم : حسن السؤال نصف العلم , ويمكن أن يؤخذ من هذا الحديث لأن الفائدة فيه انبنت على السؤال والجواب معا (31).
(43) الإيمان أعلى من الإسلام ، والإحسان أعلى من الإيمان ؛ فكل مؤمن مسلم ، ولا ينعكس ، قال تعالى { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم }(50). وكل محسن مسلم ومؤمن ، وليس كل مؤمن محسنا ، قال تعالى { وقليل من عبادي الشكور }(51)، وقال جل ثناؤه :{ والسابقون السابقون أولئك المقربون } إلى قوله { ثلة من الأولين وقليل من الآخرين }(52).
(44) فيه دليل لمن قال : إن الإسلام يغاير الإيمان .
والحق ـ كما قال علماؤنا ـ إن فيهما اجتماع وافتراق ، وعموم وخصوص ، فإذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا .
يعنى إذا ذكرا في سياق واحد ؛ كان بينهما تغاير في المعنى ، وهذا مقتضى حديث جبريل عليه السلام ، ولقوله تعالى {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا }.
وإذا ذكر أحدهما في سياق ؛ فإنه يتضمن معنى الآخر ..... كقوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام }(53) . وقوله سبحانه {ورضيت لكم الإسلام دينا }(54).
وأما اجتماعهما مع اتفاقهما في المعنى في قوله { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين }(55). فقد أجاب عنه الحافظ ابن كثير ، فقال " اتفق الاسمان ههنا لخصوصية الحال ولا يلزم ذلك في كل حال (56).
وقال ابن جزي الغرناطي : الإسلام معناه في اللغة الانقياد مطلقا ومعناه في الشريعة الانقياد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالنطق باللسان والعمل بالجوارح ، وأما الإيمان فمعناه في اللغة التصديق مطلقا ومعناه في الشريعة التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فالإسلام والإيمان على هذا متباينان ؛ وعلى ذلك قوله تعالى { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } وقد يستعملان مترادفين كقوله { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا بيت من المسلمين } وقد يستعملان متداخلين بالعموم والخصوص فيكون الإسلام أعم إذا كان الانقياد باللسان والقلب والجوارح ؛ لأن الإيمان خاص بالقلب ، ويكون الإيمان أعم إذا قلنا : إنه قول اللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح ـ وهو قول كثير من السلف ـ وإذا قلنا أن الإسلام باللسان والجوارح خاصة (57).
(45) قوله صلى الله عليه وسلم " أتاكم يعلمكم دينكم " فيه أن الإيمان والإسلام والإحسان تسمى كلها دينا (58).
(46) استحباب حضور مجالس العلم على أحسن هيئة وأكملها ، فقد جاء وصف السائل بكونه " شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر "، ووصفه في رواية البيهقي " أحسن الناس وجها وأطيب الناس ريحا ، كأن ثيابه لم يمسّها دنس "؛ وهذا دليل النظافة وحسن الهيئة (59).
(47) جاء في رواية البخاري :" وسأخبرك عن أشراطها "، وله ولمسلم :" ولكن سأحدثك "، ولابن حبان (60):" ولكن إن شئت نبأتك عن أشراطها ".
ويستفاد من اختلاف الروايات أن التحديث والإخبار والإنباء بمعنى واحد وإنما غاير بينها أهل الحديث اصطلاحا [قاله الحافظ في الفتح 1/148 ].
وقال البخاري في العلم : بَاب قَوْلِ الْمُحَدِّثِ : " حَدَّثنا" وَ" أَخْبَرَنَا" وَ" أَنْبَأَنَا" ، قال :
وَقَالَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ كَانَ عِنْدَ ابْنِ عُيينة حَدَّثنا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا وَسَمِعْتُ ؛ وَاحِدًا ...".
(48) وفيه بيان واضح ـ كما قال ابن حزم في الإحكام (61) ـ : أن كل خطاب منه صلى الله عليه وسلم لواحد فيما يفتيه به ويعلمه إياه ؛ هو خطاب لجميع أمته إلى يوم القيامة ، وتعليم منه عليه السلام لكل من يأتي إلى انقضاء الدنيا ؛ لأن ذلك الحديث إنما خرج بلفظ تعليم الواحد في قوله صلى الله عليه وسلم " أن تعبد الله كأنك تراه " ويكفينا من هذا الحديث قوله عليه السلام أثر جوابه لجبريل عليه السلام إن هذا الذي ذكر تعليم لهم فأشار إلى الخطاب المتقدم للواحد .
قال توفيق : إلى هنا ينتهي إيراد ما أفدته من كتب السنة وشروحها ، وخاصة فتح الباري في صحيح البخاري ـ للحافظ ابن حجر في شرحه للحديث رقم (50) ، وشرح الإمام النووي على صحيح مسلم عند شرحه للحديث رقم (
مع تصرف مني في بعضها لمزيد البيان ، بالإضافة إلى بعض الفوائد الزوائد .
وأضفت إلى ما تقدم من الفوائد ـ ولله الحمد والمنّة ـ ما يزيد على عشرين أخرى ، فقلت :
(49) فيه أن ليس للإمام أو نوابه ، ولا للعالم أن يحتجبوا دون حاجات الناس ومصالحهم ؛ لقوله : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناس ) .
قال الحافظ ابن حجر : أي ظاهرا لهم غير محتجب عنهم ولا ملتبس بغيره , والبروز الظهور .
(50) وفيه بيان تواضع النبي صلى الله عليه وسلم
فقد وقع في بعض روايات هذا الحديث في أوله :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو , فطلبنا إليه أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه , قال : فبنينا له دكانا من طين كان يجلس عليه "(18ب).