بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ، اللهم لك الحمد حتى ترضى ، ولك الحمد إذا رضيت ، ولك الحمد بعد الرضا ، اللهم لك الحمد كلُّه ، و لك الثناء كلُّه ، أنت أهل الثناء والمجد .
اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأعمال ، لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عنا سيئها ، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت .
اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .. وبعد :
فقد طالعتُ ما كتبه الشيخ محمد حاج عيسى حول كتاب ( إجماع المحدثين ) للشيخ حاتم الشريف ، فلم أَرَ فيه موضعاً يَسلَم من المؤاخذة إلا القليل ، ولم أَرَ فيه ( نقضاً ) بهذا الحجم الذي تحمله كلمة النقض ، بل كلُّ ما فيه لا يعدو كونَه استشكالاتٍ ، وسؤالاتٍ ، وفهوماً خاطئة لكلام الشيخ حاتم أو للمسألة العلمية ذاتها = مما يتقاصر عن درجة ( النقض ) إلى مادون ذلك .
وفي البداية أحب أن أسجل بعض الملاحظات الإجمالية والمنهجية على بحث الشيخ محمد حاج عيسى :
أولاً : لا يمانع أحدٌ أن يكتب الشيخ حاج عيسى ( نقضاً ) لإجماع المحدثين أو غيره ، لكن المرفوض في البحث العلمي ألا يَكتبَ نقضاً ثم يسميه ( نقضاً ) ! فبحْث الشيخ حاج عيسى لا يعدو أن يكون تسجيل ملحوظاتٍ على إجماع المحدثين ، بعضُها يرقى لمستوى النقض ، وغالبها دون ذلك بكثير : فالإشكال لا يسمى نقضاً ، والمصادرة على المطلوب لا تسمى نقضاً ، والمواعظ عن أسلوب الكتابة لا تسمى نقضاً ، والجواب عن غير محل النزاع لا يسمى نقضاً ، والخطأ الناشئ عن القصور في التصوُّر الصحيح لقيمة المسألة عند أهلها لا يسمى نقضاً = فهذه أمثلة للموادِّ التي كوَّنتْ ( نقض ) إجماع المحدثين !
ثانياً : لعل أهم خطئٍ كرَّره الشيخ حاج عيسى وأكثرَ منه هو : المصادرة ، خصوصاً في دعواه ( عدم تحرير محل النزاع ) فهو يأتي لمسألةٍ فيها أقوالٌ وأدلة ، فَتَارةً لا يُعَرِّج على هذه الأقوال بالذِكر ، أو لا يعرِّج على أدلتها بالإبطال تارة أخرى ، ثم يعرض ترجيحه المجرد الذي يتبناه هو وينطلق منه في بحث المسألة ! وتكون الخاتمة التي يخرج بها من هذه المصادرة : ( نقضَ ) إجماع المحدثين ! وكأنه يكفي طالبَ العلم نسفاً لهذه الأقوال و الأدلة أن الشيخ محمد حاج عيسى تجاهلها ، ولم يُضِع وقته في مناقشتها .
ومن صور المصادرة عند الشيخ حاج عيسى : أن يقف عاجزاً عن الجواب عن دليلٍ للشيخ حاتم ، ثم يحسم النقاش حول هذا الدليلٍ بأنه من المتشابه وينبغي ردُّه للمُحكم الذي يراه محكماً ، مع أن مخالِفَه – وهو الشيخ حاتم - لا يرى متَشابِهَه متشابهاً ، ولا محكَمَه محكَماً ، بل لديه تأويله العلمي الذي يزيل عنه دعوى التشابه .
فانظر كيف أصبح عدم العلم دليلاً على العلم ، و صار مِن أُسُس ( النقض ) : ( مَن لم يعلم حجةً على مَن علم ! ) .
ثالثاً : يبدو أن الشيخ محمد حاج عيسى لا يُفرِّق بين مقام التقرير ومقام الرَّد . فالرد هو مقام التمحيص والتفصيل والمناقشة ، أما مقام التقرير فيكفي صاحِبَه أن يُجْمِل قولَه في كلماتٍ معدوداتٍ ، وأن يختار الراجح دون الدخول في نقاش أدلة الرأي المخالف .
أما ما نجده في هذا ( النقض ) الذي بين أيدينا من عدمِ وقوفٍ مع أدلة المخالف ، ومِن ترجيحٍ مجرَّدٍ لقولٍ ما في مسألة يَنبني عليها إبطال للقول المخالف = فليس مقامه مقامَ النقض والرد ، وإنما مقامَ التقريرِ للمبتدئين في طريق العلم . فالشيخ حاج عيسى يرجح قولاً في معنى التدليس عند مسلم دون ذكر دليلٍ واحد ، ويرجح قولاً في مذهب شعبة في العنعنة دون دليل واحد ، ثم يبني على هذا الترجيح رَدَّه في المسألة التي يناقش فيها الشيخَ حاتم ! مع أن الشيخ حاتم في خصوص التدليس عند مسلم أثبتَ في ( المرسل الخفي )بالأدلة الظاهرة أن العلماء جميعاً على رأيٍ واحد في التدليس إلى أن جاء الحافظ ابن حجر فحَصَرَ التدليسَ في أحدى صوْرَتَيه عند السابقين ، فالشيخ حاتم مخالفٌ للشيخ حاج عيسى فيما نسبه لمسلم في التدليس في كتابٍ بين يدي الشيخ حاج عيسى ، فلا يصح في رَدٍّ يدعي صاحبه أنه بلغ درجة ( النقض ) ، وأنه يحترم عقلية قارئه من أهل العلم أن يكتفي بإعلامِنا أنه له رأياً في هذه المسألة ، وأدلة خصمه قائمةٌ لم تُنقَض ! فنحن لم نقرأ هذا ( النقض ) إلا لنتبيَّنَ المسألة العلمية ذاتَها ، لا لنعرفَ رأي الشيخ حاج عيسى مجرَّداً عن الدليل .
وما أشبه هذا بأسلوب مدرسة التقليد الذي وصَمْتَ به كتاب إجماع المحدثين ، والذي لم يؤلفه صاحبه إلا ليكشفَ هذا التقليد المتوارث من قرون في هذه المسألة !
رابعاً : لماذا يبحث الشيخ حاتم هذه المسألة بكلِّ هذا الحماس ؟
والجواب : إن لهذا الحماس أسباباً أهمها سببان :
الأول : أن للمسألة عند أهلها قدراً عظيماً ، و شأناً لا يجهله إلا البعيد عن هذا العلم ، وما الإمام مسلمٌ إلا أحد أشد الناس حماساً في تناوله لهذه المسألة ، كما أن العلماء من لدن القاضي عياض إلى يوم الناس هذا قد انقسموا فيها فريقان يختصمون ، كلٌّ يعرض لأدلة مخالفه بالرد والاعتراض . فمَن لم يعرف لها قدْرها لا يَلُم مَن قَدَرَها حقَّ قَدرِها كمسلمٍ وغيره .
الثاني : أن الشيخ حاتم يرى نفسَه في مقام الخارق لإجماعٍ مزعوم تتوارثه كتب المصطلح قرناً بعد قرنٍ ، ومَن يتصدى لما هو عند غيره إجماعاً لا يُستَكثَر عليه أن يكون شديدَ الحماس لرأيه ، قوياً في بيانه وشرحه ، والنفوس المشْبَعةُ قناعةً بهذا الإجماع في حاجة إلى هزةٍ قويةٍ توقضها مِن أَسْر هذا الإجماع .
وما الضعف الظاهر على كثير من اعتراضات الشيخ حاج عيسى إلا دليلُ قوةِ أسرِ هذا الإجماع ، بحيث لم يجد له سنداً إلا الضعيفَ من الحجج في أكثر نقضه .
تنبيه : مَن أراد الحق في هذه المسألة فعليه أن يأخذ كلَّ قولٍ من المصدر الأَصِيل لقائله ، فرأي الشيخ الحاج عيسى دوَّنه في بحثه هذا ، ورأي الشيخ حاتم مدوَّنٌ في ( إجماع المحدثين ) ، فمَن ظَنَّ أن باكتفائه ببحث الشيخ حاج عيسى سيعرف رأي الشيخ حاتم كما شرحه في كتابه فقد أخطأ ، وظلم نفسه ، وظلم الشيخ حاتم حين أخذ رأيه من غير كتابه ، فلن يصل الباحث الجاد إلى تمام تصوُّر رأي الشيخ حاتم حتى يأخذه من كتابه ، هذه نصيحة للباحث عن الحق ، ولن يضيره بعدها أن يوافق الشيخ حاتم أو يخالفه .
وتنبيهٌ آخر : أرجو ألا تَحُولَ دعوى ( عدم الرضا عن الأسلوب ) دون تَفهُّمِ قول القائل ، أيَّاً ما كان ذاك القائل ، فإن الحق في نفسه لا ينقص بضجيج صاحبه ، ولا يزيد بلين جانب صاحبه ، وفي الانشغال بالأسلوب غُنيةٌ لمَن أراد الراحة من الفهم .
وفي هذا الجزء الأول سأناقش دعوى الشيخ حاج عيسى عدمَ تحرير الشيخ حاتم الشريف محلَ النزاع .
فأقول مستعيناً بالله تعالى :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ